بطيئة جداً حركة عقارب ساعاته، متعبة جداً رحلة الذاكرة خلاله، صاخبة جداً أصوات ثرثراته، إنه يوم الجمعة، اليوم الذي لا بد من أن ترى نفسك حبيس زنزانة أفكارك وذكرياتك مهما انشغلت أو تشاغلت خلال ساعاته.
إنه يوم الجمعة الثالث لها بعد انقضاء عدة طلاقها، في هذا اليوم قررت أن تخرج من هذه الزنزانة، فالملل الذي وصلت إليه، مقيت لدرجة أن سرح بها خيالها لتستذكر أيام تدوير إبرة المذياع وصوت تشويش الأمواج الراديوية يملأ المكان، المشهد الذي طالما استخدمه مخرجوا المسلسلات والأفلام في ذلك الحين للتعبير عن ملل وضجر البطل.
«ألأني أكره التكنولوجيا التي قتلت روحانياتنا قد وصلت بذكرياتي إلى المذياع أم لأنني أشتاق نفسي بأيام كانت الشريطة الحريرية تزين شعري الكستنائي، وهذا كله في دوامة أشتاقني»، هكذا كانت تسائل نفسها عندما اجتاحها الحسم والقرار بأن تخرج للتنزه في الحديقة، وهي تعلم علم اليقين ماذا يقول المجتمع عن امرأة مطلقة وحيدة خرجت للحديقة، لن يراها أحد بصورة المرأة المتعبة المنهكة التي تخنقها الذكريات وتلطمها الأفكار وتجلدها الحسرات، بل سيراها بأفضل حسن نية أنها المتمردة، ولم تكن لتقوى على التفكير بأكثر سوء نية يمكن أن تلصق بها.
حمدت الله بأن معركة الصراع للوصول إلى الحديقة لم تكن طويلة، لكن تلك المسافة كانت كافية لأن تجلدها بسوط الأفكار المتناقضة، هل تحزن وتشتاق للماضي وتتجاهل هذا الحاضر الذي اختارته، أم تنهض من ضعفها دون خوف أو تردد لتبدأ من جديد؟ هل من الجيد أن تقف وقفة قصيرة للوراء لأن الروح تحن للوراء، أم عليها أن تمضي قدماً بثبات وكبرياء وشموخ؟ هل ستنجح في أن تختار مصيرها وأن تكافح من أجل المستقبل؟ وهل حقاً أن السعادة والنجاح موجودان في كل مكان، فقط عليها أن تعمل لأجلهما دون النظر إلى الوراء مستغلة حاضرها لصناعة مستقبل أكثر جمالاً، جاعلة من ماضيها المؤلم طاقة تحفزها لكل انتصار.
أخيراً قد وصلت باب الحديقة، ربما لو كانت المسافة أكثر من ذلك لضعفت وعادت إلى منزلها، وعند وصولها أول كرسي فارغ، رمت جسدها المنهك فوقه، دون أي اهتمام بموقع الكرسي، كانت فقط تريد أن تجلس لتثبت لنفسها أن ها هي قد كسبت الرهان الأول من الصراع وها هي على المقعد وحيدة في الحديقة.
حقيقة كانت تفكر هل طريقة جلوسها تعبر عن انتصار، جسد منهك مرمي فوق كرسي حمل كفان منقبضتان تستندان على حجر ينتهي بساقين مرتجفتين يعلوهما رأساً تتسلى عيناه بمتابعة أحذية رواد الحديقة وتحاول التفرس عن عمر وجنس وطبيعة صاحب الحذاء، بقيت هكذا إلى أن لاحظت قدمين تتجهان نحوها ثم يجلس صاحب هاتين القدمين على كرسيها.
لعين هذا الأدرينالين اللاإرادي الذي فرز فجأة في هذا الجسد الذي يكفيه من المعاناة ما يعاني، المثبط الوحيد لهذا الأدرينالين أن في هاتين القدمين حذاء نسائي يوحي بأن صاحبة الحذاء في الأربعينيات من العمر، حذاء أسود جلدي كلاسيكي لامرأة بسيطة عملية، الشيء الوحيد قطع عليها تخمين صفات صاحبة هذا الحذاء هو صوت خفيف الشجر، الصوت الذي لم تسمعه طيلة أيام عدتها، ولا حتى في الأسابيع القليلة الماضية، لأنها لم تكن تملك من رحلة في تلك الأيام، سوى حافلة تقلها من منزلها إلى مكان عملها، وأخرى تقلها من مكان عملها إلى منزلها، حتى حاجياتها كانت تطلبها عبر الهاتف لتصل إليها.
لحفيف الشجر نغم سرقها من كل حاضر وماضي فنست كل صراع وكل اتهام ورفعت رأسها تجول بعينيها سريعاً لترسم صورة عامة عن المكان والزوار، وكأنها حقاً كانت سجينة زنزانة وانتهت محكوميتها للتو فرأت كل شيء قد تبدل وشعرت وكأن الأوكسجين قد ازدادت نسبته في الهواء، وربما أنها كانت ستبتسم لولا أن قطع لحظتها صوت هادئ يقول:
الحمد لله على سلامتك
عفواً
أقول لك الحمد لله على سلامتك من رحلتك معه
عفواً أي رحلة
حقيقة لا أدري أي رحلة، لكنها هي تلك الرحلة التي لم تشعرك بوجودي بجانبك وتطفلي على كرسيك
آه نعم فهمت، لا بأس، مقعد عام في حديقة عامة
إن كان جلوسي معك ليس تطفلاً فهل سؤالي لك عنه ليس تطفلاً أيضاً
عن من
عنه
من
حقيقة لا أدري، كل ما أعلمه أنها رحلة مع ذكر، زوج، حبيب، خطيب، أخ، ابن عم، ابن جيران …. المهم أنه ذكر
من أين جاءت لك هذه الثقة بالتحليل
من الأيام، لقد قلت لك أعلم أنها رحلة مع ذكر، لم أقل لك أني أعرف أنها رحلة مع ذكر
وما الفرق
الفرق بين العلم والمعرفة
لم أفهم
العلم نتيجة بعد تجربة، أما المعرفة فهي مجرّدة ومسلّمة، وأنا امرأة علمتني الأيام ما خبرتك به عن نفسك
لماذا
ألم يقولون أن وراء كل رجل عظيم امرأة
نعم وأنا أقول أن وراء كل أنثى ذابلة هاء الضمير المذكر
يتبع……………………………..
بقلم: ايمان فاعل
المقال ضمن النشرة الكاملة على فيس بوك في هذا الرابط