يوم شتوي مشمس، يعتبر يوم جميل لتخرج السجينة من قفص اتهاماتها التي يقذفها بها المجتمع، يوم يحمل من الانور والدفء ما يكفي ليشحذ همتها وتنتصر مجدداً في معركة صراعها للوصول إلى الحديقة والتنزه، هذا ما قد خمنته جليسة الحديقة، التي توالت عليها أيام الجمع كعادتها الأسبوعية للتنزه ولم يزدد عليها سوى تلهفها للقائها لتلك (المطلقة) التي تبحث عن أجوبة كثيرة في بداية رحلتها فكانت تريد أن تحكي لها خبرتها وتجربتها التي تتشابه في كثير من التفاصيل أو ربما لا تشابه بينهما سوى ضمير المذكر الغائب

في هذا اليوم عندما وصلت لكرسيها المعتاد، رأت رسالة عرفت دون فتحها أنها رسالة من تلك الصديقة، فهي رسالة تشبه ملامح حياتها، ورقة رثة، حروفها اختطت بيد مرتجفة تسعى لا محال إلى تثبيت أصابعها وتدوين حروفها وبوح كلماتها.

فتحتها بكل هدوء وكأنها على موعد مع مرآة ذاتها وبدأت تقرأ فيها:

« لا أعرف ما يجمعني معك ولا مدى علاقتنا لأعرف أن أتخير مقدمة رسالتي لك، هل هي مقدمة رسمية مختصرة أم هي مقدمة حارة دافئة، دقائق هي لقاؤنا، وقليلة هي كلماتنا، لكن لا أدري لم كانت الساعة تلعب لعبة اللازمن معنا، ففقدت الدقيقة قيمتها وتضاعفت لآلاف الدقائق، حتى كلماتنا فقدت معناها وحملـت كل حملهـا للصمـت، الـشيء الوحيـد الـذي أعرفـه هـو أنـك لا بـد وقـد تلهفـت للقـائي، لا لسـماعي، وإنمـا لسـماع نفسـك، فأنـا أيضـاً قـد رأيـت بعينيـك مـا يوحـي برحلتـك، رأيـت أثـر جـرح الـروح بـاد عـلى بؤبؤ عـين اسـتقر في مقلـة غائرة

وسـط بـشرة شـاحبة فأدركـت أنـك أنـت أيضـاً ضحيتـه (هـو) ولأننـا أنـا وأنـت كذلـك، أي ضحايـا (هـو) فيمكننـي أن أقـول لـك عزيـزتي.

مـا منعنـي عـن لقـائي بـك ليـس هزيمـة الوصـول إلى مقعـد الحديقـة، بـل لانتصـاري

عـلى نفـسي التـي طالـما وضعتنـي تحـت مقصلـة الـمجتمـع، مـاذا يقـول، ومـاذا

يريـد، هـذه الجثـة المتحركـة أمامـك لم يقتلهـا إلا كلام المجتمـع، ما زلـت أذكـر

كيـف عصبـت عينـاي عـن كل سـلبيات هـذا الرجـل الـذي كان زوجـي فقـط

لأني أريـد الهـروب مـن صفـة العانـس، وأذكـر دموعـي يـوم عقـد قـراني لأني كنت

أشـعر بروحـي ممـتدة عـلى سـكة قطـار الثلاثين مـن العمـر، وعـلي انتشـالها مـن أمام رحلـة هـذا القطـار الـذي بـدأ يقـارب عتبـة أمومتـي، ما زلـت أذكـر يـوم أخبرني أنـه يحـب مـن الآت الموسـيقا آلـة التشـيللو واصفـاً إياهـا بأنهـا آلـة تفـرض رأيهـا ’لي كل لحـن سـعيد وتحيلـه إلى حزيـن، كنـت مـن السذاجـة مـا يكفـي لأغفل عـن إدراك أن مـا يتحـدث عنـه هـو إسـقاط لا شـعوري لصفاتـه، شـخص ديكتاتـوري يلغـي وجـود الآخـر ويـسرق سـعادته.

لأني عانيـت مـن المجتمـع مـا عانيـت، فقـد رفضـت أن أضـع نفـسي الجديـدة تحـت مقصلـة الـموت قبـل ولادتهـا الحقيقـة، ولكـن إن كنـت مـن الاهتمـام بقصتـي مـا يكفـي فأنـا سـأقول لـك مـا قـد وصلـت إليـه في رحلـة التفكـير، وأول مـا وصلـت إليـه هـو رؤيـة هويتـي كمـا يقـرؤني المجتمـع، امـرأة ثلاثينيـة مطلقـة عاملـة، فلـكل صفـة معركتهـا ولكـن لجميعهـا جيـش واحـد هـو (أنـا)

سـأتابع في الدراسـات العليـا، وسـأطور أدوات عمـلي، سـأطبخ لنفـسي مـا أشـتهي، وأزيـن الأطبـاق، وسأشـتري أجمـل الصحـون، وسأمشـط شـعري كل يـوم، وسـأعتني ببـشرتي، فأنـا ما زلـت تلـك الأنثـى التـي سـتقف أمـام مرآتهـا وتقـول لنفسـها كل يـوم (صبـاح الخيـر) وسـأفتح عقلـي وقلبـي ليدخـل حيـاتي مـن يسـتحق، لـن أكـره الرجـال، لـن أرفضهـم، لكـن سـألغي فكـرة الاسـتناد عـلى كتـف الرجـل، بـل سـأقف بجـواره دون اتـكاء، فاسـتنادي عليـه سـيكسرني حـين تصدعـه وغيابـه، أمـا الاتـكاء فلـن يكلفنـي سـوى التفاتـه دهشـة لهـذا التصـدع ثـم اكمـل حيـاتي كمـا كنـت لا كـسر بالخاطـر ولا جـرح في الـروح، وسـأغلق بـاب التأثـير عـلى سـلامي

الداخلـي وسـأصنع سـعادتي بنفسي ونجاحـي لي أنـا وجمـالي لي أنـا والحيـاة كلهـا لي أنـا ومـا أعطيـه هـو فقـط فقـط انعـكاس لمـا أقدمـه لنفسـي

عزيـزتي أنـا أقـوى ممـا تظنـين أنـا أمـل يولـد مـن رحـم الألم، أنـا أنثـى حـرب عمرهـا عـشر سـنوات ولا نـدري متـى نقـول غـدا سـنعود الى بيوتنـا التـي هجرنـا منهـا قـسراً»

 بقلـم : إيمـان فاعـل

رابط المقال ضمن النشرة الكاملة على فيس بوك

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid02nycxKrV2s8YqmYFFQP7QsEJVpbWF2uQ3fJfdwdcKSNeMTV5ASSzkb2qpWryYneRBl&id=250785795439022&mibextid=Nif5oz